0 تصويتات
في تصنيف تعليم بواسطة (517ألف نقاط)

السؤال: هل يمكن التميز بين الإحساس والإدراك في كل نشاط معرفي ؟

مقال جدلي هل يمكن التميز بين الإحساس والإدراك في كل نشاط معرفي

مرحباً بكم متابعينا الأعزاء طلاب وطالبات العلم  في موقعنا باك نت منبع المعلومات والحلول الذي يقدم لكم أفضل الأسئله بإجابتها الصحيحه من شتى المجالات التعلمية من مقرر المناهج التعليمية  والثقافية ويسعدنا أن نقدم لكم حل السؤال الذي يقول........ هل يمكن التميز بين الإحساس والإدراك في كل نشاط معرفي

الإجابة 

المقدمة وطرح المشكلة 

لقد وصف أرسطو الإنسان بأنه الحيوان المدرك الوحيد كونه الوحيد الذي يمتلك قدرات عليا كالذكاء والخيال والتذكر بينما الإحساس وظيفة مشتركة لدى جميع الكائنات من حيث أنه يقترن بالحواس والمؤثرات الخارجية المباشرة ومن هنا طرحت العلاقة بين هاتين الوظيفتين المعرفيتين لدى الإنسان فذهب علماء النفس الكلاسيكيين إلى الفصل التام بينهما اعتبارا لاختلافهما في الطبيعة والقيمة بينما رأى علماء النفس المعاصرين عكس ذلك حيث جعلوا من الإحساس والإدراك وجهين مختلفين لوظيفة نفسية واحدة متصلة يستحيل الفصل بين أجزائها وهنا نجد أنفسنا أمام موقفين متناقضين كليا وهو ما يدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟

محاولة حل المشكلة 

الأطروحة 

برى الكلاسيكيين (العقلين والحسين ) أنه من الضروري الفصل بين الإحساس والإدراك وإن اختلفوا في طبيعة تبرير هذا التمييز.

حيث رأى العقلين أمثال أفلاطون وديكارت و ليبنتز أنه من المتعذر إثبات أي صلة تواصلية بين الإحساس والإدراك وذلك راجع للاختلاف الجذري بينهما النابع عن اختلاف طبيعتهما وتفاضلهما في القيمة المعرفية،وقد عبر أفلاطون عن هذا الموقف من حلال نظريته في المعرفة المبنية على تقسيم الوجود إلى صنفين متباينين عالم المثل و المعقولات الثابتة والأزلية المطلقة وعالم الحس ذو الطبيعة المتغيرة النسبية والفانية وينسجم هذا التصنيف مع ثنائية الروح والبدن عند أفلاطون فنجد طبيعة الروح عنده تتوافق مع ميزات عالم المثل ومن هنا يقرر أفلاطون أن النفس قبل حلولها بالبدن كانت تحي في عالم المثل وتشاهد الحقائق والصور الثابتة لكن عند مخالطتها للبدن الحسي نسيت كل تلك الصور والحقائق ولهاذ فان ممارسة فعل المعرفة عند أفلاطون تقوم على أساس وظيفة التذكر فقال قديما "المعرفة تذكر والجهل نسيان " وفي مقابل هذا يربط أفلاطون بين طبيعة البدن الفانية والنسبية وطبيعة عالم الحس المتغير والنسبي ومن خلال كل ما سبق يضعنا أفلاطون أمام مرتبين من الوجود تقابلهما مرتبتين من المعرفة معرفة البدن النسبية المتوجهة نحو عالم الحس عن طريق الإحساس ومعرفة الروح التي تنشد عالم المثل عن طريق وظيفة التذكر والإدراك العقلي وينفي أفلاطون أن تكون أي صلة بين معرفة الروح ومعرفة البدن ومنه فلا وجود لأي صلة بين الإحساس والإدراك ويوضح الفيلسوف الألماني ليبتز هذا الموقف جيدا عندما يقول "لا يمكن أن تكون الأفكار الموجودة في الروح مأخوذة من الحواس وإلا وجب أن تكون الروح مادة والروح ليست مادة " ومنه فالمعرفة الحسية التي تتم بالإحساس ليست صورة كاملة عن الحقيقة بل هي عند أفلاطون ظل لها وصورة مشوهة عنها وهنا يبدو تفاضل الإدراك عن الإحساس ، ونجد أبو الفلسفة الحديثة روني ديكارت يؤيد هذا الفصل الذي أقره من قبله أفلاطون حيث يؤكد أن العقل ملكة مستقلة قادرة على الوصول إلى المعرفة انطلاقا من مبادئها الخاصة الفطرية فقط أي أن العقل يحصل المعرفة حتى في غياب المعطيات الحسية، فتكون معرفته قبلية وسابقة عن كل تجربة. ونجده في التأمل الثالث من كتابه تأملات يقسم أفكار النفس إلى ثلاثة أصناف أدناها الأفكار الاتفاقية أو الخارجية العارضة ويقصد بها الأفكار الحسية أو ما ينطبع في عقولنا حين ندرك الأشياء المادية الخارجية بالإحساس مثل الألوان و الطعوم وهذا النوع من الأفكار لا قيمة له في بناء معرفة دقيقة لأن مصدره الحواس وهي تخدعنا كرؤية العصا منكسرة في الماء وكما يقول ديكارت"لا تطمئن لما يخدعك ولو لمرة واحدة" تليها الأفكار الخيالية أو المصطنعة ويقصد بها تلك الأفكار التي نصل إليها بفعل المخيلة ويكونها الخيال على أساس الأفكار الحسية فتعتمد على خيال الإنسان وقدراته على إيجاد أفكار لا وجود لها في الواقع رغم أن عناصرها موجودة فيه مثل فكرة الحصان المجنح وكذلك فكرة حيوان له وجه إنسان وجسد أسد مثل أبو الهول وأفكارنا عن كائنات تسكن كواكب أخرى وهذه الأفكار ليس لها قيمة لأنها تعتمد على الإحساس والخيال وكلاهما لا قيمة له في مجال المعرفة الحقة وثالث أصناف الأفكار عند ديكارت وأعلاها مرتبة هي الأفكار الفطرية وهي مبادئ يزود بها الطفل عند ولادته يضعها فيه الإله بالفطرة ومن هنا فهي بديهية تدرك بالحدس لا تبرهن بل إن البرهان يبنى عليها ومنه فلا وجود لأي صلة بين الإحساس والإدراك كمعرفة قبلية فطرية لأن كل إدراكاتنا المعرفية صادرة بصورة قبلية من العقل الفطري وهنا تبدو المفاضلة بين معرفة الإحساس الساذجة ومعرفة الإدراك اليقينية،

ورغم الاختلاف الجذري في الطرح إلا أن الفلاسفة الحسين يوافقون العقليين في هذا الفصل بين الإحساس والإدراك لا من حيث القيمة بل انطلاقا من الدرجة أو شدة التعقيد فالعقل عندهم ملكة تابعة للإحساس عاجزة عن أنشاء أفكار ذاتية خاصة بل إنه(العقل ) ليس أكثر من مستودع للخبرات والصور الحسية ومنه فكل المدركات العقلية ما هي في الحقيقة سوى خبرات حسية تحصلنا عليها شيئا فشيئا نتيجة انطباع صور المحسوسات ومن هنا يقول التجريبيين "لا وجود لشيء في الأذهان ما لم يوجد أولا في الأعيان" فلا وجود لأفكار فطرية وكما يقول جون لوك "العقل صفحة بيضاء تسجل عليها التجربة ما تشاء" ومنه فالحواس هي نوافذنا نحو معرفة العالم الخارجي ومادة المعرفة لهذا فمن "فقد حسا فقد معرفة " كما قالها أرسطو قديما و هيوم حديثا وبتالي فكل المعارف عند الحسيين بعدية مكتسبة بالتجربة الحسية وعلى هذا يكون الإحساس هو مصدر المعرفة والمتحكم في المدركات والموجه لها ومن ثم التميز بين الإحساس و الإدراك وجعل الإحساس أعلى مرتبة من الإدراك.

نقد 

إن الاختلاف بين الإحساس والإدراك أمر صحيح لا يمكن إنكاره لكنه لاستلزم الفصل كما ذهب إلى ذلك كل من التجريبيين والعقليين فالاختلاف لا يعني ضرورة الفصل بل قد يكون المختلفان متكاملان ومتواصلان فالإدراك العقلي يعتمد في الأساس على ما تنقله الحواس لأن الإحساس هو الجسر الذي بعبره العقل أثناء إدراكه للموضوعات وهذا يعني أن للإحساس وظيفة يؤديها في عملية الإدراك وبدونه يصبح الإدراك فعلا ذهنيا مستحيلا وهذا ما أغفله العقليين أما الحسيين فقد بالغوا في جعل الإحساس الأساس الوحيد لكل معرفة إنسانية فالإدراك ليس مجرد تجميع للأحاسيس ولا يمكن إغفال أن المعرفة الحسية في مجلها ساذجة وتقع في الخداع والخطأ.

نقيض الأطروحة 

وبحلاف ما سبق يرى علم النفس الحديث الممثل في الجشطالتيين والظواهريين أنه من المتعذر الفصل بين الإحساس والإدراك لأنهما يمثلان وجهين مختلفين لظاهرة نفسية واحدة.

حيث ترى مدرسة الجشتالت بزعامة كل من كوهلر وفرتهيمر أن الإدراك ليس مجموعة إحساسات

وهو ما تدل عليه بوضوح كلمة جشطالت التي تعني" الشكل أو الصيغة " والصيغة هي وحدة منظمة ومتماسكة مكونة من مجموعة أجزاء متفاعلة ومتواصلة بحيث أن تلك الأجزاء المكونة للصيغة الكلية لا يمكن فهمها منعزلة عن الوحدة الكلية ومنه فالصيغة الكلية هي التي تعطي للأجزاء معناها وصفاتها فالأنغام الموسيقية لا قيمة لها إلا في تواصلها ضمن قطعة موسيقية متماسكة وكلية كذلك الأمر في سقوط الأمطار فنحن لا نركز ذهننا على الحركات الجزئية للقطرات الصغيرة بل ندرك الحركة الكلية للأمطار المتساقطة التي تفرض نفسها علينا كمعطى موضوعي مباشر لا تكون الأولوية فيه للعناصر الجزئية بل للأشكال الكلية ومن هنا تصبح الصيغة الكلية هي أساس الإدراك الذي يعود إلى عوامل خارجية موضوعية والدليل على ذلك أن إدراك العناصر الجزئية يكون مختلفا تبعا للشكل الذي تنتمي إليه فنحن مثلا لا ندرك في هذا الشكل ......... كل نقطة على حدى بل ندرك من الوهلة الأولى سلسلة من النقط ويمكننا إدراكها على هيأة أحرى إذا غيرنا بنيتها العامة إلى هذا الشكل .. .. .. .. حيث ندرك سلسلة النقط مثنى مثنى وإذا ما نحن أضفنا إلى هذه السلسة عنصرا أخر تغير إدراكنا لها كذلك مثل الصيغة التالية .._.._.._.. والملاحظ من كل هذا أن تغير الصيغة الكلية في كل مرة أدى إلى تغير إدراكنا للعناصر الجزئية ومنه فالبنية الكلية الخارجية هي التي تحكم عملية الإدراك وتفرض قوانينها علينا وبذلك فهي تحد من قدراتنا العقلية حيث يكون نشاط الذهن شكلي وليس رئيسي تابع لشكل وبنية الموضوع الخارجي ومحكوم به لأن أي تغير في الصيغة ينتج عنه تغير ضروري في الإدراك العقلي وعلى هذا فإن المدرسة الجشطالتية لم تأخذ بالعوامل الحسية لوحدها ولا بالعوامل العقلية فقط بل أخذت بالإحساس والإدراك معا،ونجد الظواهرية بزعامة هورسل ترفض الفصل بين الإحساس والإدراك حيث ترى أن الإدراك ليس تأويل للإحساس بل هو امتلاك المعنى الداخلي عن المحسوسات قبل إصدار أي حكم ولذلك فالعالم الموضوعي ليس هو ما نفكر فيه بل الذي نحياه ونقصد إليه وعليه فإن كل شعور هو شعور بشيء خارج عنه أي أن الشعور الداخلي يقصد دائما شيء موجود في العالم الخارجي ويمكن التوضيح أكثر بمثال الطفل الذي يفتح صندوق على قصد أن يجد فيه حلوى ولكن وجد فيه أقلاما فهنا محتوى الشعور الداخلي مختلف عن المحتوى الخارجي فيصحح محتوى الشعور ولهذا عنيت الفينومينولوجيا بوصف الظواهر كما تبدو في الذهن ثم تعود للوجود من أجل تصحيح هذا التصور أو تثبيته وسواء كان الشعور المقصود أو المنوي صحيح أو خاطئ فأنه يبقى حول العالم الخارجي وليس ذاتي ومن هنا يتبدى بوضوح ترابط الإحساس والإدراك حيث لا وجود لإحساس خالص ليس مسبوق بشعور ذهني كما لا يوجد إدراك ذهني غير مرتبط بشي حسي لأن كل شعور هو شعور بشيء وبتالي فلا يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك.

نقد 

لكن ورغم كل الانتقادات التي وجهتها المدرستين الجشطالتية و الظواهرية للاتجاهين العقلي والحسي إلا أنهما لم يسلما هما أيضا من النقد ذلك أن الجشطالتيين مالوا إلى التركيز على الشروط الخارجية والعوامل الموضوعية الخارجية لعملية الإدراك وهو ما يشكل إقصاء للعقل وقدراته الذاتية فجعلت دوره شكلي في العملية الإدراكية رغم أن الذهن ليس إطارا سلبيا يستقبل فقط بل هو فعال يبني العملية المعرفية ،أما الظواهرية فقد غلبت الشعور الذاتي للإدراك على العالم الخارجي وعوامله الموضوعية وهو ما يؤدي إلى العجز عن الحكم الموضوعي لاختلاف التجارب بين الذوات المدركة.

التركيب 

إن الإدراك عملية نشيطة عليا يعيشها الإنسان فتمكنه من الاتصال بالموضوع الخارجي أو الداخلي وهو عملية مصحوبة بالوعي فتمكنه من التعرف على الأشياء والإدراك يشترط لوجوده عمليات شعورية بسيطة ينطلق منها وهو الإحساس ووجود الموضوع الخارجي الذي تتوجه إليه الذات المدركة وهو ما يعرف بالموضوع المدرك ومن هنا يصعب التمييز بين الإحساس والإدراك كما أشار إلى ذلك أرسطو قديما من خلال نظريته في المعرفة المبنية على إدراك الصور الكلية انطلاقا من تجريدها العقلي من المحسوسات الجزئية وهو ما يدفعنا إلى تغليب موقف علم النفس الحديث رغم ما يوجد فيه من نقائص.

خاتمة وحل المشكلة 

ومن كل التحليل السابق نستنتج أن الإحساس والإدراك ظاهرتين مختلفتين سواء في المصدر حيث أن الإدراك عملية عقلية بينما الإحساس يتم بالحواس أو في الطبيعة حيث أن الأولى معقدة بينما الثانية بسيطة أولية لكن هذا الاختلاف لا يعني أبدا الانفصال بل إنهما متكاملان ومتواصلان ضمن نسق المعرفة الإنسانية فلا يمكن الاستغناء على أي واحد منهما لذلك فيمكن اعتبارهما وجهين مختلفين لعملية نفسية إنسانية واحد.

3 إجابة

0 تصويتات
بواسطة (628ألف نقاط)
 
أفضل إجابة
هل يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك؟ (شعبة الآداب وفلسفة فقط

الصيغ والأسئلة المشابهة: *هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟ *هل يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك؟*هل التمايز القائم بين الإحساس والإدراك يجعلهما يقفان على طرفي نقيض؟*هل الطابع الأولي للإحساس يعني خلوه من أي نشاط ذهني؟*ما طبيعة العلاقة بين الإحساس والإدراك؟*هل هناك علاقة بين الإحساس والإدراك؟

الطريقة: جدلية

                                        المقال:

إن الإنسان وبحكم وجوده الطبيعي يعيش في اتصال دائم مع العالم الخارجي، وتكون أبسط صور هذا الاتصال بواسطة الحواس أو ما يعرف بالإحساس، حيث يعتبر هذا الأخير السبيل الأول والنافذة التي نطل من خلالها على العالم الخارجي. لكن يوجد عدد من الفلاسفة وعلماء النفس من يعتبر الإحساس مجرد حادثة أولية بسيطة لا تقدم سوى انطباعات حسية، فهو بحاجة دائمة إلى نشاط العقل أو ما يصطلح على تسميته بالإدراك الذي يتم من خلاله تأويل وتفسير مختلف الإحساسات، وانطلاقا من هذا التمايز القائم بينهما برزت إلى الوجود مشكلة فلسفية تعد – بلا جدال – واحدة من أقدم وأهم المشكلات الفلسفية والمتعلقة بنظرية المعرفة والمطروحة في الفلسفة الكلاسيكية والحديثة على حد سواء، وهي مشكلة طبيعة العلاقة القائمة بين الإحساس والإدراك. إذ هناك من يقيم تفرقة حاسمة بين الإحساس والإدراك ويذهب إلى درجة الفصل التام بينهما ويجعلهما يقفان على طرفي نقيض بالنظر إلى اختلافهما من حيث الطبيعة والقيمة، بينما هناك من يرفض هذه التفرقة ويذهب إلى درجة اعتبارهما وجهين مختلفين لعملية نفسية واحدة يتعذر بل يستحيل فصل أو عزل أحدهما عن الآخر، وأمام هذا الجدل القائم تبرز التساؤلات الدقيقة التالية:

ما طبيعة العلاقة القائمة بين الإحساس والإدراك؟ وهل هي علاقة تمايز وانفصال أم تكامل واتصال؟ وبتعبير آخر هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟

           الأطروحة:إمكانية التمييز بين الإحساس والإدراك:

يتفق كل من الفلاسفة العقليين والحسيين على أن هناك ما يدعو إلى الفصل والتمييز بين الإحساس والإدراك حتى وإن اختلفوا في طبيعة تبرير هذا التمييز.

إذ يعتقد كبار الفلاسفة العقليين (قديما وحديثا) أن الإحساس يختلف عن الإدراك ليس من حيث الطبيعة فقط بل من حيث القيمة أيضا، فالإحساس حسبهم لا يمد الإنسان بمعرفة كاملة، فهو لا ينطوي على أي يقين، ولعل هذا ما عناه الفيلسوف اليوناني سقراط بقوله: "إن الحواس تخدعنا خداعا كبيرا"، وهو الطرح ذاته الذي تبناه ودافع عنه تلميذه أفلاطون الذي رأى في المعرفة الحسية أنها معرفة لا تثبت على حال وهي متغيرة، لا ترتقي إلى مصاف المعرفة العقلية ذات الحقائق الثابتة والأزلية، وهذا الذي جعل أفلاطون يميز بين عالمين أساسيين وهما عالم المثل والمعقولات الثابتة وعالم المحسوسات والمتغيرات، وفي العصر الحديث يرى رائد الفلسفة الحديثة ديكارت أن الحواس تكون في كثير من الأحيان مطية لخداعنا، وقد بين كذلك أن الإحساس لا يمدنا بمعرفة كاملة ويقينية، وأن العقل هو أعدل قسمة بين الناس بما ركب فيه من أفكار فطرية هو أساس كل معرفة، وفي هذا الصدد يقول ديكارت: " لقد رأيت الحواس تخدعني، وليس من الحكمة أن نطمئن كل الاطمئنان إلى من يخدعنا ولو لمرة واحدة ".

وفي هذا السياق يرى "ألان" أن الإنسان يدرك ولا يحس" لان المعرفة الحسية لا تقدم معرفة كاملة فرؤية المكعب بالعين المجردة تجعلنا نجزم بأنه شكل هندسي مؤلف من ثلاثة أوجه وستة أضلاع، بينما هو مؤلف في الحقيقة من ستة أوجه واثني عشر ضلعا....

*على الرغم من الاختلاف المذهبي وتباين الطرح فإن الفلاسفة الحسيين بدورهم يوافقون الفلاسفة العقليين في القول بالفصل بين الإحساس والإدراك، فالعقل – حسبهم – صفحة بيضاء تكتب عليه التجربة ما تشاء ومنه فالمدركات العقلية ما هي سوى انطباعات وخبرات حسية وأنه "لا وجود لشيء في الأذهان ما لم يوجد في الأعيان " لهذا أنكر الفيلسوف الانجليزي جون لوك وجود الأفكار الفطرية – القبلية السابقة للتجربة – واعتبر الإحساس أساس كل معرفة وهذا ما تعكسه مقولته الشهيرة " لو سألت الإنسان متى بدأ يعرف لأجابك متى بدأ يحس "، وقوله أيضا : " التجربة هذا هو الأساس الوحيد لجميع معارفنا "، ويعززه مواطنه "دافيد هيوم " حينما قال: " لا شيء من الأفكار يستطيع أن يحقق لنفسه ظهورا في العقل ما لم تكن هناك انطباعات حسية مقابلة له "، وعليه فالإحساس هو جسر كل معرفة وهو النافذة التي يطل بها الإنسان على العالم الخارجي.

النقد:رغم هذا الاختلاف الظاهر والذي لا يجب –إغفاله أو تغافله - بين الإحساس والإدراك، إلا أنه لا يستلزم أبدا الفصل بينهما كما ذهب إليه كل من العقلانيين والحسيين، فالاختلاف لا يستوجب بالضرورة الفصل، فقد يكون مرد هذه التفرقة التي أقامها أنصار النزعتين لها خلفياتها المذهبية والفكرية، فالعقلانيين ينصبون العقل بوصفه السيد في بناء المعرفة – جاهلين أو متجاهلين – انه ليس بالملكة المعصومة من الخطأ فكثيرا ما تطغى الأهواء والعواطف على سلطة العقل، والحسيين الذين بدورهم قد غالوا غلوا كبيرا في اعتبار"أن الفاقد للحس هو فاقد بالضرورة للمعرفة".

      نقيض الأطروحة:عدم إمكانية الفصل والتمييز بين الإحساس والإدراك:

وخلافا لما قدمه الفلاسفة العقليين والحسيين يرفض عدد كبير من علماء النفس المحدثين والمعاصرين إمكانية الفصل بين الإحساس والإدراك فالجشتالتيون – على سبيل المثال- يرون أن الإدراك ليس مجموعة من الإحساسات فقط بل هو صورة إجمالية وكلية، وهذا ما تدل عليه كلمة "جشتالت " التي تعني ' الصورة ' أو ' الشكل والصيغة ' فالإنسان لا يدرك الأجزاء بل يدرك الموضوع في صيغته وصورته الكلية، هذه الأخيرة هي التي تعطي للأجزاء معناها، فالأنغام الموسيقية مثلا لا قيمة ولا معنى لها إلا في تواصلها ضمن قطعة موسيقية واحدة وكلية، وما يدعم موقف الجشتالتيين هو صياغتهم لقوانين تنظيم المجال الإدراكي أهمها:

قانون الشكل والأرضية (البروز): ومعناه أن لكل شيء أو موضوع مدرك خلفية كلما كان الموضوع المدرك مخالفا للخلفية كان الإدراك أوضح، ومثال ذلك إدراك نقطة سوداء في خلفية بيضاء.

قانون التقارب: ومعناه أن الأشياء والموضوعات المتقاربة في الحجم واللون والشكل يكون إدراكها أفضل من الأشياء والموضوعات المتباعدة.

قانون الإغلاق: مؤداه أن الناس قد اعتادوا رؤية النمط غير المكتمل على انه كليات مكتملة او موحدة، ووفقا لهذا القانون نجد الدائرة المجزاة دائما دائرة مكتملة.

قانون التشابه: فالأشياء المتشابهة يدركها العقل دفعة واحدة، فنحن في القسم مثلا ندرك التلاميذ كمجموعة دفعة واحدة وكذلك الطاولات..

إذن فالإدراك لا يحدث بالمعطيات الحسية فقط – كما يرى الحسيون – لتجمع في إدراك حسي مركب، وإنما يحدث نتيجة تأثيرات موضوعية يفرضها شكل وبنية الموضوع المدرك، فمعنى ذلك أن الإحساس مسبوق بفعالية الذهن على نحو ما، وبالتالي نجد المدرسة الجشتالتية تركز على ما يلي:

• الإدراك الحسي يبدأ من الصورة الكلية ثم ينتقل إلى الأجزاء.

• الإدراك الحسي ناتج عن انتظام الأشياء في المجال.

• نشاط الذهن في الإدراك الحسي شكلي.

وفي هذا الاتجاه يذهب كل من (هوسرل) و (ميرلوبونتي ) أقطاب المذهب الظواهري إلى رفض الفصل التعسفي بين الإحساس والإدراك. وردوا عملية الإدراك إلى تفاعل الشعور والموضوع المدرك معا، لان كل شعور على حد تعبير 'ميرلوبونتي' هو شعور بموضوع فيقول: " إن الكيفية لا يقع الإحساس بها مباشرة أبدا فكل شعور إنما هو شعور بشيء ما "، كما ان النظرية الظواهرية تنتقد التفسير العقلي الذي يعتبر الإدراك حكما عقليا وتؤكد ان الإدراك حالة نفسية تابعة للشعور وتتغير بتغير أحواله، إذ أن "هوسرل" يعتبر الإدراك متغيرا فيقول: " أرى بلا انقطاع هذه الطاولة سوف اخرج وأغير مكاني ويبقى عندي بلا انقطاع شعور بالوجود الحسي لطاولة واحدة هي في ذاتها لم تتغير وأن إدراكي لها ما فتئ يتنوع إنه مجموعة من الادراكات المتغيرة ". وهذا ما دفع الظواهريين إلى الاعتقاد أن " الثابت هو الأشياء نفسها والمتغير هو الإدراك ". لهذا يجب الاكتفاء بوصف ما يظهر دون الاعتماد على فروض ونظريات ودون الفصل بين الإحساس والإدراك، حيث لا وجود لإحساس خالص غير مسبوق بشعور ذهني، كما لا يوجد إدراك ذهني غير مرتبط بالحواس، وهذا ما يعزز فرضية استحالة الفصل بينهما.

إذن النظرية الظواهرية تقوم على:

• لا إدراك إلا بموضوع: فليس ثمة ما يبرر الحديث عن إدراك عقلي خالص ومجرد. فحسب الظواهريين نحن لا نعرف غير الظواهر، فإدراكنا الحسي مشروط بموضوع ما.

• لا موضوع مدرك إلا من حيث هو مقصود.

فالإدراك إذن هو امتلاك المعاني لان: "العالم الموضوعي ليس ما نفكر فيه وإنما هو ما نعيشه ونحياه ". فهو متوقف على العوامل النفسية كالشعور والإرادة، ومن هنا فأنه لا يكون ثابتا بل متغيرا حسب أحوالنا النفسية، ففي حالة الحزن نرى العالم كئيبا، وفي حالة الخوف نراه مرعبا...

النقد:لكن ومع أهمية التصور الذي جاء به كل من الجشتالتيون والظواهر يون إلا أن موقفهم هذا بدوره لم يرتق إلى مصاف الحل المتكامل، فأنصار النظرية الجشتالتية قد نبهوا إلى أهمية العوامل الخارجية في تشكيل عملية الإدراك، إلا انهم قللوا من أهمية العوامل الذاتية ودور العقل. فتأثير البنيات المنظمة والصور الكلية في الذهن لا يعني أن الذات لا تؤثر في الأشياء المدركة، فالذهن لا يكون مجرد إطار سلبي.

كما أن أصحاب المذهب الظواهري قد غلبوا كفة الشعور الذاتي وهذا ما يؤدي إلى الابتعاد عن الموضوعية بالنظر إلى اختلاف الذوات المدركة.

التركيب: إذن وبعد التعرف على مختلف وجهات النظر نصل إلى أن الفصل بين الإحساس والإدراك مستحيل في الواقع لان الذات البيولوجية لا تنفصل عن الذات السيكولوجية، رغم إمكانية التمييز بينهما نسبيا من حيث الطبيعة والوظيفة. فهما وجهين مختلفين لعملية واحدة، فلا يمكن حدوث الإدراك إلا بوجود الوسائط الحسية، ولا يمكن للإحساسات أن تكون ذات معنى ما لم تتوج بتفسير وتحليل النشاط الذهني.

الخاتمة: نستنتج في الأخير بناءا على كل ما سبق أن التمايز القائم بين الإحساس والإدراك لا يجعلهما يقفان على طرفي نقيض، لأن الدراسات النفسية والعلمية قد برهنت وأثبتت استحالة الفصل بينهما، لهذا فما يبرر الفصل بينهما لدى أنصار الطرح الكلاسيكي هو التشيع للنسق والمذهب لا غير، وبالتالي فهو فصل نظري، أما من المنظور العلمي فإنه يتعين تجاوز مأزق الفصل بين ما هو حسي وما هو عقلي.
0 تصويتات
بواسطة (517ألف نقاط)
هل يمكن التميز بين الإحساس والإدراك في كل نشاط معرفي
0 تصويتات
بواسطة (628ألف نقاط)
هل يمكن التمييز بين الاحساس والادراك في عملية المعرفة الادراكية

حيث يرى الجشطالتيون أنه لا يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك لأنهما شيء واحد و أن هدفهما ووظيفتهما واحدة و هي إدراك العالم الخارجي يقول كوفكا " الإحساس و الإدراك عمليتين متصلتين ولا يمكن فصلهما " و يقول كوهلر "الإحساس و الإدراك عملة واحدة لا يمكن فصل وجهها عن ظهرها " و يرى الجشطالت أن الشكل أو الصيغة التي يكون عليها
مرحبًا بك إلى موقع باك نت، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...